الاثنين، 22 مارس 2010

كواليس الهيمنة


لقد فكك بيير بورديو ميكانيزمات الهيمنة الاجتماعية من خلال ملاحظة ميادين مختلفة ومتنوعة ( فلاحون جزائريون ـ جامعيون ـ باطرونات ـ عمال ـ صحافيون . . . ) وكذا من خلال بناء جهاز مفاهيمي غني . .
بقلم: فيليب كابان

في فيلم ” أذواق الآخرين ” ، وهو من إخراج أنبيس جاوي ، يلعب جان بيير باكري دور كاستيلا ، أحد باطرونات مقاولة من المقاولات الصغيرة والمتوسطة PME الذي وقع في غرام كلارا ، وهي ممثلة بالمسرح ، وبذلك وجد نفسه غارقا في دائرة أصدقائها : رسامين ومهندسين وممثلين . . . وباختصار ، ” عجل ” إقليمي غارق في الوسط الغني الأنيق. الأحداث الأكثر تميزا في الفيلم وقعت في أحد المطاعم : فقد شكل كاستيلا ( بشارب وبذلة وربطة عنق ونكث بذيئة ) بدون أن يشعر أضحوكة أصدقاء كلارا ( ببذلات سوداء مهملة بحذق وفكاهة وظرف من الدرجة الخامسة ). إن ما يؤسس هنا كراهية البورجوازيين الصغار المثقفين للباطرون الصغير الوافد هو الإحساس بأنهم مختلفون ومتميزون عنه تميزا هو من العمق من حيث استبطانه إلى حد أنه يمكن أن يقرأ من خلال النظرات والأوضاع الجسمانية والحركات والصيغ الكلامية.

في فيلم آخر هو ” موارد بشرية ” للوران كانتي ، نجد فرانك (جليل ليسبيير) طالبا شابا بمدرسة الدراسات التجارية العليا HEC يختار إجراء دورة تدريبية بإدارة المقاولة التي يعمل بها والده منذ ثلاثين سنة . . . وبرفض المشاركة في اللعبة، فإنه سيصطدم بخنوع واستكانة أبيه؛ فقد تقبل هذا الأخير مصيره من خلال استيطان نظام الأشياء.
إن هاتين الحكايتين تقصان علينا التباين القائم فيما بين أنماط العيش والحياة ، وهي تصف علاقات الهيمنة والحظوة : وبذلك فهي تقدم ضربا من التركيز لفكر بيير بورديو .
وبالفعل ، فلم يشيد بيير بورديو بناء شاسعا وطموحا إلا من خلال ملاحظة الممارسات الثقافية وأشكال منطق التمايزات الاجتماعية ، هذا البناء الذي يمكن تلخيصه بالصورة التالية : إن المجتمع فضاء للاختلاف تعتبر علاقات الهيمنة بداخله علاقات خفية ومستترة ، وذلك لأنها مستدمجة بعمق من قبل الأفراد . وسيمضي مشروع بيير بورديو بكامله إلى التشكل من خلال ملاحظة مجالات وسكان من مختلف الأشكال والأنواع (من الفلاحين الجزائريين إلى الجامعيين مرورا بالباطرونات والعمال والصحافيين . . . )، أي إلى إيضاح ميكانيزمات هذه الهيمنة والبرهنة عليها.
يطرح بورديو المصادرة القائلة بأن هناك في كل مجتمع مهيمنون ومهيمن عليهم ، وبأن المبدأ الأساس للتنظيم الاجتماعي يقيم في هذا الاختلاف ، غير أن هذه الهيمنة تتوقف على وضعية الموارد وإستراتيجية الفاعلين ( وهكذا فإن كاستيلا المهيمن في عالمه ، أي عالم المقاولة ، يتحول إلى مهيمن عليه عندما يغشى الوسط الفني ) . وتتوجب لاستيعاب وفهم هذه الظواهر معرفة ضروب منطق تأثيراتها المتعلقة بالموقع وبالموارد، وهذا هو سبب اقتراح بورديو منظورا طوبولوجيا للمجتمع ؛ فهذا الأخير ليس هرما أو سلما ، بل يبدو كـ ” فضاء للاختلافات ” والفوارق. وينتظم هذا الفضاء الاجتماعي حول بعدين اثنين : الحجم الإجمالي للموارد المحصل عليها وتوزيعها إلى رأسمال اقتصادي ( ثروة ، أجور ، مداخيل ) ، ورأسمال ثقافي ( معارف ، ديبلومات ، أساليب جيدة ) . إن هذا الفارق فيما بين المال والثقافة ، فيما بين ” التجاريين ” و ” الخلص ” هو جد تمييزي حسب بورديو، وأحد محددات هوية الفنانين يقيم في اختيار ” الفن للفن ” واللامبالاة حيال الجانب المادي : فالأعمال المنجزة تحت الطلب من قبل رسام تنعث بأنها أعمال ” غذائية ” ، وفي أصناف اجتماعية أخرى ، وعلى العكس من ذلك ، فإن المال يعتبر علامة على التميز : فكاستيلا في نهاية العشاء ينتهي بأداء فاتورته. إن الفاعل الاجتماعي لا يروم إذن حسب بورديو إلا المصلحة: وهو ساع أيضا وراء الحظوة والاعتراف به من قبل الآخرين. ويأتي الاختلاف أيضا فيما بين باطرون مقاولة من المقاولات الصغيرة والفنانين من المواجهة بين خانتين أو عالمين مختلفين من خانات أو عوالم المجتمع التي يسميها بورديو بالحقول؛ إنها ضرب من الميكروكوزم ( العوالم الصغيرة ) متجانسة نسبيا ومستقلة ذاتيا وهامة من ناحية الوظيفة الاجتماعية : الحقل الفني ـ الحقل الصحفي ـ الحقل الجامعي . . . إلخ.
إن الحقول هي بشكل أساسي مجالات للمنافسة والصراع؛ فالحقل الصحفي على سبيل المثال هو مجال متسلط عليه قبل كبريات وسائل الإعلام وبعض الصحفيين الذين ” يصنعون الحدث ” ، والمهيمن عليهم من بينهم يتكونون من صحافيي القاعدة والمأجورين على السطر.غير أن كل حقل يمتلك قواعد لعبه الخاصة : ففي العالم الأدبي يحسن استخدام الرأسمال الثقافي والرأسمال الاجتماعي ( شبكات العلاقات ـ حفلات الكوكتيل والتملق ) بدل استخدام الرأسمال الاقتصادي. و كل فرد يلج حقولا مختلفة، إلا أنه لا يحتل فيها كلها نفس المرتبة؛ فالجامعيون هم في موقع المهيمن عليهم في حقل السلطة ( بالمقارنة مع الصناعيين )، إلا أنهم مهيمنون في الحقل الثقافي بالمقارنة مع الفنانين ( أنظر كتاب الإنسان الأكاديمي Homo Académicus ).
ويستخدم بورديو مفهوم اللعب لوصف اشتغال الحقول ، وهذا الوضع يمكنه من تجاوز التعارض التقليدي في ما بين نشاط الفرد والحتمية الاجتماعية ( الذي هو منسوب في الغالب لبورديو ) . ويقبل اللعب الاجتماعي أن ينظر إليه كلعبة ورق أو لعبة شطرنج : فلكل فرد موقع إيجابي قليلا أو كثيرا ، ولديه مؤهلات وأوراق رابحة ( رأسمال اقتصادي ، ثقافي أو اجتماعي ) ملائمة قليلا أو كثيرا . . .

من قطار الحياة إلى نمط الحياة
إذا كان البعض في حاجة كليا إلى الموارد ويجري عليهم اللعب ، فإن كثيرا من الفاعلين يستطيعون استخدام استراتيجيات من أجل تحسين أوضاعهم ؛ فكاستيلا على سبيل المثال سيبذل جهودا تجعله يهتم بالفن التشكيلي المجرد ، ذلك الفن الذي لا يفقه فيه شيئا ، وذلك من خلال تقديمه طلبا للحصول على رسم جداري مائي من رسام طليعي ، وذلك من أجل تزيين واجهة معمله ، وبذلك فقد حاول أن يحول الرأسمال الاقتصادي ( مورده الأساس ) إلى رأسمال اجتماعي وثقافي.ولقد أبان بورديو من خلال تعريف وتحديد الفضاء الاجتماعي بهذا الشكل كيف أن ” كل فئة من فئات الأوضاع تقابلها فئة من أشكال التطبع Habitus أو (الأذواق) “. وقد سبق لدوركهايم في معرض برهنته على سيطرة ما هو اجتماعي على السلوك الفردي أن تناول كموضوع الفعل الأكثر حميمية وهو المتمثل في الانتحار (1)، و بورديو يتبنى في كتابه ” التمايز ” مسعى مماثلا لمسعى دوركهايم.إنه من المقبول عادة أن ” الأذواق لا تناقش ” وأن التفضيلات مسألة شخصية : بيد أن بورديو يوضح أن أحكامنا ( سواء تعلقت بالموسيقى أو بالرياضة أو بالمطبخ . . ) هي انعكاس لموقعنا داخل الفضاء الاجتماعي، وما يقيم رابطا فيما بين البنيات الاجتماعية وأذواقنا الخاصة هو التطبع Habitus. إن التطبع هو ضرب من القالب الذي من خلاله نرى العالم ويتم توجيه سلوكنا ، وهو يظهر من خلال مجموع متماسك من الأذواق والممارسات ؛ فباطرون صغير ككاستيلا مثلا يملك كلبا وتغطي جدران شقته أوراق موردة ، يعشق مسرح الشارع والمسلسلات الأمريكية ، ومن المحتمل أنه يحب كرة القدم وصلصة لحم العجل. إلا أنه ليست لتطبع أصدقاء كلارا نفس السمات والخصائص : فهم بالأحرى يتبنون قطة ويعشقون المسح الطليعي وأفلام جان لوك غودار أو وودي ألن ، يأكلون مطبوخات صينية أو مكسيكية ويكرهون كرة القدم. وإذن فما هو مناسب من أجل ملاحظة الفضاء ليس هو قطار الحياة وإنما هو أسلوب العيش أو نمط الحياة. إن كل صنف من أصناف المستخدمين والتجار الصغار والجامعيين والعمال الاجتماعيين يقابل عالما ونظاما مرجعيا ، ويمكن أن تكون هناك بطبيعة الحال استثناءات لهذه القاعدة : أي العمال الذين يقرأون كتب مارغريت دوراس أو الجامعيين الذين يحبون جوني هاليداي: ليست هناك إذن حتمية ميكانيكية ، وإنما قوانين نزوعية يتعلق الأمر بالكشف عنها بتحيينها. غير أن تجارب الارتقاء الاجتماعي هي في الغالب مؤلمة ، لقد ألحق أنطوان بأحد الليسيات الفاخرة من طرف أبويه : ” لقد وجدت نفسي هناك داخل الليسي أغرب الغرباء، وهناك وقفت بالفعل على الفارق . . .لقد كان الليسي تقريبا كصندوق للباكالوريا بالنسبة لأبناء الأغنياء الذين كانوا يحيون بالفعل حالة شبيهة بحالة الهواية ” ، ولقد شعر بالمهانة والمذلة جراء ملاحظات رفاقه ” بخصوص ملابسه الرخيصة ” ( بؤس العالم ).
إن محرك تنميط الحياة هذا هو التمايز؛ فهل هناك ما هو أفضل من الثقافة لإظهار أننا متميزين ؟.. لقد لاحظ بيير بورديو في أبحاثه الأولى الولوج المتفاوت للثقافة حسب اختلاف الطبقات الاجتماعية ( محبة الفن ) : إن أفراد الطبقة المثقفة ( المتعلمة ) يبدون عند زيارتهم للمتاحف ألفة واستئناسا عفويين بالفن ، يتأتيان لا من استعداد أو هبة فطرية، وإنما من سنن ولغات مكتسبة من خلال عملية التطبيع الاجتماعي ، والمهيمن عليهم لا يمتلكون هذا السنن ، وبذلك فإنهم سيذهبون كنتيجة لذلك لتطبيق خطاطات إدراكهم للوجود اليومي على الفن. وهذا هو السبب الذي يجعلهم يحبون الأفلام المصورة ، أو الأفلام التي تعتبر سيناريوهاتها مماثلة لها.السيد ل رئيس عمال بالسكك الحديدية يعشق الرسوم الجدارية بكنيسة سيكستين يقول عن سبب عشقه لها : ” لأنها تعرض شيئا ما ، لكنك عندما ترى أربع خربشات بقلم الرصاص وترى أن الناس يشترونها بأسعار مجنونة ، فأنا شخصيا عندما أجد هذه الخربشات الأربع فإنني سأرميها في القمامة ” ( مذكور في التمايز ) . أما الطبقات المثقفة فهي تعطي الأولوية والحظوة للتفوق والرفاهية ثم للقراءة في الدرجة الثانية.
وبشكل أعم فإن هناك تراتبية للممارسات الثقافية ؛ فالفنون النبيلة ( رسم ـ مسرح ـ موسيقى كلاسيكية ـ نحت ) هي إقطاعة الطبقات المسيطرة . أفراد الطبقات الوسطى المتعلمة ( صغار البورجوازيين الحاصلين على ديبلومات ) يتسمون بـ ” الإرادة الثقافية الحسنة ” ؛ إنهم يمارسون أنشطة ثقافية مكثفة ، لكن ونظرا لأنهم لا يتقنون سنن الميادين الأكثر نبالة ، فإنهم ينقلبون إلى بدائل عنها : السينما ، الأفلام المصورة ، الجاز ، مجلات تبسيط العلوم ، التصوير الفوتوغرافي. أما الطبقات الشعبية فلا يفضل لها إلا الفتات والبقايا ، إذا ما صدقنا بورديو بهذا الصدد ، وهو الذي يرفض فكرة وجود ثقافة شعبية ( التمايز ـ الفقرة 7 )، إنه ينادي بأن ثقافة المهيمن عليهم يحكمها مبدأ الضرورة ؛ فليست لديهم الوسائل التي لا تجعلهم غير مبالين .
إن توزع هذه المشروعات هو أبعد عن أن يكون جامدا ؛ فهناك تنويعات شعبية للموسيقى الكلاسيكية ( AISES على سبيل المثال ) وبعض النشاطات تتدمقرط ( التنس والغولف ) ، ويحدث حتى أن بعض الأحكام ( الموقدة للنار في لحظة ما ، تتحول عن طريق لعبة للقلب إلى أحكام ” فاخرة ” في أوساط معينة ( أنظر في أيامنا هاته إلى أغاني كلود فرانسوا أو أقزام الحديقة ).
إن الثقافة ليست إلا الجزء الأكثر بروزا للتطبع ؛ فهذا الأخير يصنع بالفعل مجموع السلوكات الاجتماعية : التغذية ـ الأدوار الذكورية أو الأنثوية ـ طريقة الجلوس إلى المائدة ـ اللغة . . . إن التطبع يحدد ما هو خير و ما هو شر، ما هو جميل و ما هو قبيح، وما يبدو متميزا لشخص ما ( سيارة من نوع 4×4 بالنسبة لأحد الأغنياء الجدد على سبيل المثال ) قد يبدو فجا بالنسبة لشخص آخر ( الأرستقراطي مثلا ).
المملوكون من قبل ما هو اجتماعي
إن منطق التميز يندفن في الهيمنة، وما يشكل قوة هذا التأثير بالنسبة لبورديو هو أنه ينغرس في أعماق النفوس والأجساد ، والبنيات الاجتماعية هي نوعا ما ” مستنسخة ” من البنيات العقلية ، ونحن في الجزء الأعظم من اهتماماتنا ومشاغلنا لا نفكر : إذ نحن نتحرك على قاعدة التصور الذي لدينا عن العالم والذي تعلمناه ، إننا ” أسرى اللعبة ” الاجتماعية ، واللعبة ( أي منطق التمايز والهيمنة ) يتم نسيان أنها كذلك ، وتمكن هذه القدرة على الفعل بدون تفكير ( الحس العملي ) حسب بورديو من تجاوز الهوة الفاصلة في ما بين الموضوعية والذاتية ؛ فالبنيات الاجتماعية الموضوعية مكون من مكونات ذاتيتي ، وهذه تشارك الأخرى.
وهكذا ، فالمعايير وترميز الأدوار الأنثوية و الذكورية على سبيل المثال هو ترميز مطبوع في الأجساد ؛ ففي مجتمع القبائل يجد الرجل نفسه مضطرا للوقوف مستقيما وللأكل بطريقة فظة ، في حين أن المرأة مطالبة بأن تتحرك بتحفظ ومرونة وأن تأكل ” بأطراف شفتيها ” ( الحس العملي ) ، وبورديو يلح في كتابه ” التمايز ” على هذا التسجيل الجسدي للحركة؛ فالرياضات الشعبية مثلا ( كرة القدم ـ الكرة الطائرة ـ الملاكمة ) تعلي من شأن روح التضحية والقوة، أما رياضات الطبقات الوسطى والعليا ( الغولف ـ التني ـ الفروسية ) فتعطي الامتياز للرحابة والمسافة وغياب الاتصال المباشر. الأفضليات الغذائية لدى الطبقات الشعبية موجهة من قبل بحث لاشعوري عن القوة والمنفعة : فهذه الطبقات تحب اللحم والذهون ، أما الطبقات الوسطى فتروم بالأحرى التفنن في الأكل والطعام الخفيف : فالجسد في حاجة للرشاقة أكثر مما هو في حاجة للمتانة. إن المهيمن عليهم لا يعون هذه الميكانيزمات التي تمارس عن طريقها الهيمنة ، إلا أن المهيمنين أيضا لا يعونها : وقد ساءل بورديو الباطرونات مؤخرا خلال ملتقى باطرونات كبريات وسائل الإعلام ( فوكس ـ بيرتيلسمان ـ آوول ـ كنال بلوس . . . ) قائلا: ” هل تعرفون ماذا تفعلون ؟ ..” (2) . ومع ذلك فقد أسيء استخدام مصادرة اللاوعي هاته في كتاب لبورديو ذاته هم ” بؤس العالم ” ؛ فهذا الكتاب الجماعي المنشور سنة 1993 مشكل من سلسلة من الحوارات المونوغرافية ، بيد أن ما يفاجئ عند قراءته هو أن لدى الناس عملية انعكاسية وأنهم واعون في الجانب الأعظم بميكانيزمات الهيمنة. وهكذا فقد ساعدت البلدية العامل الاجتماعي الذي أنشأ جمعية وشركة لسيارة الإسعاف في إنشاء شركته ، ولكنه يعتقد أنها ستستفيد من هذه العملية سياسيا؛ ” إن كل بنيات السلطة تقوم على قاعدة السلط الصغيرة التي لها مع هذه السلطة علاقة ارتهان من أجل أن ترفع من قيمتها وشأنها” كما علق العامل على ذلك.
وبشكل عام فإن هذه المحاور الكبرى لنظرية بورديو ، والتي بلورها في كتابه ” تأملات باسكالية ” ، تقوم على الاقتراح التالي : ليست هناك أفكار خالصة ؛ فالإنتاجات الفكرية ( الفلسفة، الإيديولوجيات والأدب أيضا ، الخيال ، الإبداع ) هي كلها تعابير عن البنيات الاجتماعية لعصرها. إن وجه الكاتب أو الفنان المستقل ، والمبدع ( المجسد من قبل شخصيات مثل فلوبير أو ماني ) هو بناء اجتماعي ـ تاريخي لم يبرز إلا في القرن 19 ” قواعد الفن “.
العنف ( الرمزي ) بالمدرسة
قبل دخول الفاعلين في الممارسة اليومية تكون المعايير قد ترسخت في أذهانهم عبر عملية التطبيع الاجتماعي وعبر سيرورات إيديولوجية يشير إليها بورديو باسم العنف الرمزي. ومن خلال إجرائه لبحث بمعية كلود باسرون على الطلبة في الستينيات ، لاحظ بورديو اللامساواة في ولوج التعليم الأولي؛ فأبناء العمال ممثلون بشكل كبير بنسبة ضئيلة ( يمثل الطلبة 10÷ من 35 ÷ من السكان النشيطين ) إن السلوك اتجاه المؤسسة المدرسية والعلاقة معها هما أيضا غير متماثلين بكثير تبعا للأصل؛ فالطلبة البورجوازيون يعتقدون أنهم موهوبون : إذ أنهم يعلنون موقفا صريحا وكراهية للتقنيات الأكثر مدرسية ، ولديهم ” ضمان للوضعية ” هو عبارة عن تطبع الطبقة. وبالفعل، فالثقافة المرفوع من شأنها وقيمتها من قبل المؤسسة مألوفة لديهم لأنها ثقافة وسطهم الاجتماعي. أما طلبة الطبقات المتوسطة والشعبية فلديهم سلوك معوز لأنهم يعتقدون أن بإمكان المدرسة أن تمنحهم النجاح المدرسي.أما المدرسون فهم متواطئون مع هذا النظام : فهم يضفون القيمة على ” إيديولوجية الهبة ” والعمل اللامع. الثقافة الجامعية إذن إرث بالنسبة للبعض، وتعلم بالنسبة للآخرين. وفي كتابه ” نبالة الدولة ” 1989 يتابع بورديو تحليلاته ؛ حيث إن قراءة تقرير لجنة التحكيم في مباراة التبريز تؤكد يؤكد ” النبرة الطيبة ” الجامعية : فالمرشحون مطالبون بالبرهنة على رزانتهم وعلى تهذيبهم وكياستهم وموهبتهم ونباهتهم ، إنهم مطالبون بتحاشي الطبقات الكادحة والادعاء والطمع والسوقية.
إن فرض معايير الامتياز هاته يتم عن طريق خدع ومن خلال ستر وإخفاء علاقات الطبقة بالهيمنة: إنها تشتغل بالعنف الرمزي ، إنها احتجاب يستهدف المتعلمين والمعلمين أيضا : ” إن البروفيسور الذي يعزو لهذا التلميذ أو ذاك من تلامذته صفات ونعوت البورجوازية الصغيرة سيتم استنكار موقفه إن لم يتم اتهامه بإقامة أحكامه على اعتبارات طبقية ، حتى ولو كانت ضمنية”.
وليست المدرسة هي المؤسسة الوحيدة التي تنتج العنف الرمزي ؛ وهكذا فالتمثلات التي تنتجها الصحافة المتلفزة ” تُفرض أحيانا على الأكثر خصاصة كمنطوقات معدة سلفا لما يعتقدون أنها تجربتهم” ” بؤس العالم ” ، والنظام السياسي محلل في إطار منظور مماثل. إن هناك ” نزعة وهم ديمقراطي ” توهم الجميع أن لهم نفس الحق في الرأي والتعبير. و الحقيقة هي أن السياسة مجال محتكر من قبل الطبقات المهيمنة، وللمهيمن عليهم نزوع للاعتقاد بأنهم غير أكفاء في هذا المجال ، لذلك فهم يقصون أنفسهم ذاتيا من الحياة السياسية بالتخلي عن سلطة القرار لديهم ، وبذلك يكون نظامنا نظام حظر مقنع (3).
إعادة إنتاج الهيمنة
إن الهيمنة في حاجة أيضا إلى الامتداد في الزمن ، والمدرسة تبدو عبر الغربلات العديدة التي تقوم بها أداة لتعميق الفوارق الاجتماعية.إن كبريات المدارس هي في قلب عملية إعادة إنتاج الطبقات الاجتماعية المهيمنة، وهي أيض أكثر انتقائية اجتماعيا من الجامعة؛ فهي تستقبل جزءا هاما من التلاميذ المنحدرين من الطبقات المهيمنة ( 60÷ وأكثر بالمدرسة الوطنية للإدارة ومعهد الدراسات العليا في التجارة HEC ,ENA أو مدرسة العلوم السياسية ) . وفضلا عن ذلك فتراتبية هذه المؤسسات تعيد تفصيل المواقع داخل الفضاء الاجتماعي : فنحن نجد أبناء الصناعيين بمدرسة الدراسات العليا في التجارة HEC ، في حين نجد أبناء الأساتذة بالمدرسة العليا للأساتذة. إن هذه المؤسسات متجانسة اجتماعيا ومنغلقة على ذاتها، وهي تساهم بذلك في نحت ” روح الجسد “.
وهكذا ، فلخلق أسطورة الاستحقاق ( الاستحقاقوقراطية Méritocratie ) تستخدم المدارس الكبرى كأدوات في خدمة استراتيجيات إعادة إنتاج المهيمنين ، وبورديو يشير إلى أن وجه العصامي ( الذي يصنع نفسه بنفسه ) لا يمثل إلا استثناء : فنحن لا نجد إلا 3÷ من أبناء العمال ضمن فئة كبار الباطرونات.
بيع الفتيل
لقد فرضت أعمال بورديو المتعلقة بالمدرسة ذاتها باعتبارها نموذجا حقيقيا، وذلك من خلال إعادة النظر في أسس الإيديولوجيا التربوية (4)، وهي كاشفة عن التصور كما هي كاشفة عن تصور صاحبها وعن وظيفته السوسيولوجية، فسواء تعلق الأمر بدمقرطة التعليم أو بالاستفتاء أو التفضيلات الثقافية أو العلاقات في ما بين الرجال والنساء ، فإن هدفه كان دائما واحد : وهو الكشف عن ما يكمن ويختفي خلف الأوهام والمظاهر السطحية للعبة الاجتماعية.
لقد أرادت سوسيولوجيا بيير بورديو إذن أن تكون سوسيولوجيا للكشف عن المستور : فهو حسب كلماته ذاتها ذاك الذي ” يبيع الفتيل ” ، ولهذا الوضع عواقب : فإذا كانت السوسيولوجيا تكشف وتميط اللثام ، فإنها سوف تزعج الماسكين بزمام النظام. وكما يقول لنا بورديو على سبيل المثال من خلال تبيانه أن الوسط العلمي هو أيضا مجال للمنافسة فيما بين المراكز المهنية والمختبرات ، فإن السوسيولوجي يعارض هذا العالم الصغير . وخطر منطق مثل هذا يتمثل في تجميد السوسيولوجي وتحنيطه في وضع بطولي : فالانتقادات الموجهة لبورديو تم في الغالب وقبليا إدانتها باعتبارها معبرة عن أولئك الذين يرومون الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم.
لقد قادت إرادة إرباك أولئك الذين يمارسون عملية شد الحبل بورديو مؤخرا إلى التصدي للقطاعات التي لم يكتشفها بعد منهجيا كما فعل في معظم أعماله ، وهذه بالخصوص هي حال كتابه ” حول التلفزة ” الذي تمت في الوقت الذي يؤكد فيه أنه يعرض ” مكتسبات البحث بخصوص التلفزة ” عملية محاكمته بقسوة لجهله بعديد من الأعمال التي أنجزت في إطار سوسيولوجيا وسائل الإعلام ، ولغياب المتكأ التجريبي فيها(5).
مؤاخذة لا يمكننا توجيهها إليه إلا بصعوبة بالنظر إلى العدة الهائلة من المعطيات والمناهج التي يستخدمها عموما ، فهو في كتابه ” نبالة الدولة ” على سبيل المثال ، يستغل البحوث الإحصائية وقياسات الرأي والحوارات الجيدة ونصوص الأبحاث وسجلات المؤسسات والملاحظات حول سير الحياة . . . إلخ. إن بورديو يدافع بالفعل عن تصور مطالب بسوسيولوجيا علمية ، وهو ثمرة لعمليات ذهاب وإياب في ما بين البناء النظري والتأكيد التجريبي ، تصور طوره في كتابه ” مهنة عالم الاجتماع ” المؤلف بشراكة سنة 1968 مع كلود شامبورديون و ج.ك. باسرون . لنلاحظ خلال عملية العرض هاته أن اختياراته الميتودولوجية قد استطاعت أن تتطور عبر الزمن ، وهكذا فإن كتابه ” بؤس العالم ” هو كتاب مبني على قاعدة حوارات يتوجه خلالها الباحث نحو المبحوث بحديث من نوع ” الحديث العادي ” ، وهو منهج يقوم حسب البعض على مراوغات جلية : فرض الإشكاليات وتوجيه الإجابات . . . إلخ.
يبقى أن إنجاز بيير بورديو يحتل مكانة مركزية في إطار المناظرة العلمية ، في السوسيولوجيا كما في العلوم الإنسانية عموما، وتقوم هذه السلطة على بهارات متعددة ؛ فلهذه السلطة في المقام الأول خاصية جاذبة ومستفزة ، وذلك من خلال كشفها عن كواليس ما هو مجتمعي ( الفوارق المدرسية ، محددات الذوق الثقافي . . ) ، وقد أظهر صاحبها أنه مجدد سواء عبر تعبئة التقنيات العلمية المتنوعة أو عبر ابتكاراته المفاهيمية : فلقد جددت مفاهيم التطبع والحقل والتميز والعنف الرمزي التحليل السوسيولوجي بعمق .
وبشكل أعم ، فإن قوة عمل بورديو تتمثل دون شك في كونه شيد خطاطة نظرية متفرعة وموحدة في نفس الآن على قاعدة تنوع كبير للمجالات والميادين ، ومن خلال تركيب عديد من المنابع النظرية : كارل ماركس ( علاقات الهيمنة ) ، ماكس فيبر ( أهمية المعنى الذي يعطيه الفاعلون لحركتهم ، مفهوم الشرعية ) ، إميل دوركهايم ( المنهج السوسيولوجي ) ، جاستون باشلار ( بناء الموضوع ) ، تورستن فيبلن ( الاستهلاك البذخي ) ، جون أوستين ( وظائف الكلام ) ، وأيضا نوربير إلياس ، إرفينغ جوفمان ، بازيل بيرشتاين ، إيمانويل كانط ، كلود ليفي شتراوس ، لودفيغ فتجنشتاين . . . لقد عرف بورديو كيف يمزج تأثيرات متعددة من أجل إقامة نظام متماسك يلخصه هو ذاته في كتابه ” التمايز ” من خلال المعادلة التالية: (تطبع)(رأسمال)+حقل=ممارسة.
**************
هوامش:
دوركهايم ” الانتحار ” 1897 ، طبعة ثانية ، 1997 م ج ف .
أنظر ليبراسيون ، 13 أكتوبر 1999.
هذا التحليل معمق في كتاب د. جاكسي ” المعنى المستور ، الفوارق الثقافية والميز السياسي ” 1978.
أنظر ف. دوبي: السوسيولوجيا والتربية ـ ماغازين ليتيرير رقم 369 أكتوبر 1998.
أنظر بخصوص هذه النقطة نصوص د. بونيو في نفس العدد السابق من ماغازين ليتيرير ـ س. لوميو في ب. لاهير ” عمل بيير بورديو السوسيولوجي ” ، لاديكوفيرت ، 1999.
أنظر ف. مايير ـ الحوار حسب بيير بورديو ـ المجلة الفرنسية للسوسيولوجيا ، 35 ، 1995.
معجم بيير بورديو الصغير :
الرأسمال
: ليس المال وحده هو الذي يهم في الحياة ، فالرأسمال الثقافي بالنسبة لبورديو ( الديبلومات ، المعارف ، الأساليب الجيدة ) والرأسمال الاجتماعي ( شبكات العلاقات ) هي في أوضاع عديدة مصادر أكبر نفعا من الرأسمال الاقتصادي.
الحقل: الحقل الجامعي، الحقل الصحافي، الحقل الأدبي. . .إن هذه ” العوالم الصغيرة ” تقابل خانات في المجتمع، إنها فضاءات للهيمنة والصراع: والحقل هو أيضا سلة عقارب ، غير أن لكل حقل استقلالا ذاتيا معينا ويمتلك قواعده الخاصة، إنها حقول للقوة يتحرك الأفراد داخلها، كما هو الحال في لعبة الشطرنج، من مواقعهم الخاصة.
التطبع: التنس ، البادية ، الجاز ، الطبخ الصيني ، سفر ثقافي ومجلات التسطيح: تتواجد هذه الممارسات خاصة لدى الطبقات الوسطى المتعلمة، وهي تحدد في مجموعها تطبعا ، أي مصفوفة محددة من قبل موقعنا الاجتماعي الذي يجعلنا نرى العالم ونتحرك داخله. ويترجم التطبع من خلال أنماط العيش ، غير أنه يترجم أيضا من خلال الأحكام ( السياسية ، الأخلاقية ، الجمالية ) ، إنه ليس مجموعا من المعايير ، فهو أيضا أداة للفعل تمكن من خلق وتطوير استراتيجيات معينة.
العنف الرمزي: إنه التطويع النافع للرؤوس ، ويتمثل العنف الرمزي في جعل مظاهر الهيمنة ( الدوكسا ) تبدو كما لو كانت “طبيعية” في أذهان الناس، وهو يتم تطويره من خلال المؤسسات ويتكئ على تأثيرات السلطة. إن نقل الثقافة المدرسية عن طريق المدرسة بالنسبة لبورديو مثلا ( وهي التي تقود وتحكم معايير الطبقات المهيمنة ) هو عنف رمزي ممارس على الطبقات الشعبية.
التمايز: أن تكون متميزا يعني أن تعمق اختلافك. إن فن التميز البورجوازي مثلا هو أن تتميز الذات بدل أن لا تكون متميزة عن لاشيء، عبر المعارضة بالتباهي والاعتراض على سوقية الغني الحديث عهد بالغنى. إن التمايز هو في قلب اللعبة الاجتماعية ، إنه محرك سلوكاتنا : ثقافة وتربية وأوقات فراغ ومطبخ ولغة.

هناك 26 تعليقًا:

محمد يقول...

المدومة رائعة شكرا لك واتمنى لك مزيد من النجاح .....

الشبكة العربية يقول...

المقال رائع والمدونة جميلة شكرا لك بالتوفيق باذن الله ...

محمد عبد التواب يقول...

الموضوع رائع والمقال جميل جدا بارك الله فيك وجزاك خيرا ....

جريده مصر اليوم يقول...

مقال مميز جدا ومدونة رائعة وموضوع جميل شكرا لك ...

معروف يقول...

العفو ومرحبا بالجميع

وظائف في وظائف يقول...

المدونة جميلة والموضوع رائع وممتاز شكرا لك ومقال مميز ...

وظائف الخالية يقول...

مقال رائع ومدونة جميلة وموضوع ممتاز وهام ...

وظائف مصرية يقول...

رائع جدا وممتاز وموضوع هام شكرا لك ..

وظيفة مصر يقول...

موضوع جميل ومدونة مميزة شكرا لك ..

وظائف فى مصر يقول...

مقال مميز وموضوع هام وقيم بارك الله فيك ...

وظائف خالية مصر يقول...

مقال رائع ومتميز ...

محمد فوزى يقول...

كل الشكر والامتنان على روعة بوحـك ..

وروعة مانــثرت .. وجمال طرحك ..
دائما متميز في الانتقاء
سلمت على روعه طرحك
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك

لك خالص احترامي

كايرو دراما يقول...

اشكرك على هذا الطرح الرائع و المفيد

جزاك الله كل الخير

بالتوفيق ان شاء الله

مختلف يقول...

المدونة ممتازة ورائعة شكرا لك وبالتوفيق ...

hany يقول...

اشكر المسئولين على المدونة على مشاركتنا مجهودهم الكبير
واتمنى النجاح دائما لكل من ساهم فى اظهار المدونة بهذا الشكل

ولكم تحياتى

http://www.designsegypt.com/jobs

دار البيت بيتك يقول...

مجهود جميل وشكرا لمشاركتك لنا هذه المدونة
ودائما الى الامام

http://www.elbeetbetak.com

نانيس يقول...

مقال جميل ... بارك الله فيك

فرص عمل | السيرة الذاتية يقول...

شكرا على المقالة الرائعة جدااااااااا

nanees يقول...

شكرا لك على التدوينة .. ننتظر الجديد منك دائما

www.ayam-zman.com يقول...

موقع يتحدث عن ايام زمان بكل معانيه الحلوة فيتحدث عن العالم زمان وكيف كانت بدايته وعن اختراعات وابتكارات زمان ويوجد قسم يذكر بايام الطفوله من اغانى والعاب وتسالى زمان الجميله

Ahmed Fikry يقول...

موضوع رائع و مدونة جميلة جدا .. بارك الله فيك

وظائف خالية يقول...

ربما كانت هذه هي زيارتي الأولي لهذه المدونة .. ولكنها حتماً لن تكون الأخيرة
فالمرء يقابل أحياناً من يظن في نفسه القدرة على التدوين .. وهم كثير
ولكنه يأتي عليه يوم - مثل هذا اليوم - يقابل فيه من يلتهم كلماتهم المكتوبة التهاماً
شكراً لك على العرض الرائع :)

أنا واصل دوت كوم يقول...

دائما متميز في الانتقاء
نترقب المزيد من جديدك الرائع
دمت ودام لنا روعه مواضيعك

أحدث شركات التوظيف في مصر يقول...

موضوع قيم
اتمنى لك مزيد من الابداع والتألق

جمالك مع نانيس يقول...

موضوع رائع
شكرا لكم

سعر صرف العملة اليوم يقول...

مقال رائع ومتميز ...